ملخص المقال
كانت طريقة الإمام مالك مختلفة مع الخلفاء، فكان يدخل عليهم ويدخلون عليه، وكان يرى أن الفصام بين العلماء والأمراء يقود الأمة إلى المهالك.
كانت طريقة الإمام مالك مختلفة عن طريقة أبي حنيفة في التعامل مع الخلفاء، فمالك وإن لم يَلِ للخلفاء شيئًا، إلا إنه كان يقبل منهم العطايا، ويرى لنفسه حقًا فيها لأنها من بيت مال المسلمين، خاصة أنه كان لا يتنازل بها عن رأيه، وكان الإمام يدخل على الخلفاء، ويدخلون عليه، ويرى أن الفصام بين العلماء والأمراء يقود الأمة إلى المهالك:
أولًا: لأن الخليفة لا يجد من ينصحه.
ثانيًا: تنشأ الفتن إذا ذمَّ العلماء في الأمراء، وهو تحفيز بشكل غير مباشر على الخروج على الحاكم.
ثالثًا: وهو الأهمُّ، أن هذا يتوافق مع الأحاديث الكثيرة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «.. وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ».
هذا الميزان الدقيق أفرز مواقف ثرية في حياة مالك مع الخلفاء، جمعت بين العلاقة الطيبة، والنصح المناسب، والغضب لدين الله، كما لم تخلُ من الابتلاء والمحنة.
عمَّر الإمام مالك 86 سنة، فعاصر 13 أو 14 خليفة، فقد ولد في عام 93 على الأغلب، في عهد الوليد بن عبد الملك، أو وُلد بعد ذلك في عهد سليمان بن عبد الملك، فعاصر 8 أو 9 من الخلفاء الأمويين، بالإضافة إلى خمسة من الخلفاء العباسيين، حيث مات عام 179هـ في عهد هارون الرشيد.
لا يسعى إليهم مالك، بل يذهب إذا طلبوه للاستفتاء أو المشاورة أو النصح:
سئل عيسى بن عمر، أكان مالك يغشى الأمراء؟ قال: لا. إلا أن يبعثوا إليه فيأتيهم، وقيل لمالك تدخل على السلاطين وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله وأين المتكلم بالحق؟ وقال مالك: حق على كل مسلم أو رجل فعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه، لم يكن للإمام مالك اختلاط بالخلفاء من بني أمية، ولكن صار الأمر مهمًّا أيام العباسيين الذين شهدوا ثورات الطالبيين، فاهتموا برأي العلماء ومحاولة ضمهم إلى صفهم.
أول موقف عنيف مرَّ بالإمام مالك كان أيام أبي جعفر المنصور:
قامت ثورة للطالبيين بقيادة محمد النفس الزكية في المدينة عام 145 هجرية، وتزامن هذا مع فتوى للإمام مالك بعدم وقوع طلاق المكره، وظنَّ والي المدينة أن الإمام يُعَرِّض ببيعة أبي جعفر المنصور، وأنها كانت على الإكراه فهي غير ملزمة للناس، ويُقال إن أبا جعفر المنصور هو الذي دسَّ عليه من يسأله لاختباره بعد نهيه عن الحديث: «لَيْسَ عَلَى مُسْتَكْرَهٍ طَلَاقٌ»، والحديث ليس موجودًا بهذا اللفظ، ولكنه موجود موقوفًا على ابن عباس في البيهقي، ومصنف ابن أبي شيبة، بلفظ: «لَيْسَ لِمُكْرَهٍ، وَلَا لِمُضْطَهَدٍ طَلَاقٌ». أصرَّ الإمام على فتواه، ومع أنه لم يُصَرِّح بشيء خاص بالحكم ولا السياسة إلا أن والي المدينة قبض عليه، وعلَّقه من يديه، وجلده من 30 إلى 100 ضربة، وانخلع كتفه، فصار لا يستطيع رفع يديه، وحُمِلَ مغشيًّا عليه إلى بيته.
مرَّ الموقف، ويبدو أن أبا جعفر المنصور شعر أن الردَّ مبالغ فيه، فاستدعى الإمام مالك، واستسمحه، وقال له: "إن رابك ريب في عامل المدينة أو سوء سيرة في الرعية فاكتب إليَّ بذلك أُنْزِل بهم ما يستحقون، وقد كتبتُ إلى عمالي بهذا أن يسمعوا منك ويطيعوا في كل ما تعهد إليهم". وأمر له بهدية خمسة آلاف وكسوة حسنة ولابنه محمد ألف. وأراد مندوب أبي جعفر أن يجعل الكسوة على منكبه، وكذلك كانوا يفعلون يخرج بها على الناس، فانحنى مالك عنها كراهية لذلك، فناداه أبو جعفر: بلغها إلى رحل أبي عبد الله.
وفي زيارات الخليفة المنصور بعد ذلك كان الإمام حريصًا على إبراز السُّنَّة، ومن ذلك أن مالكًا كان جالسًا مع أبي جعفر فعطس أبو جعفر فشمته مالك فلما خرج أنكر عليه الحاجب ذلك وتهدده إن عاد لتشميته، فلما كان بعد ذلك جلس عنده فعطس أبو جعفر، فنظر مالك للحاجب ثم قال للمنصور: أي حكم تريد يا أمير المؤمنين، أحكم الله أم حكم الشيطان؟ قال: لا بل حكم الله قال: يرحمك الله.
وناظر أبو جعفر المنصور مالكًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرفع أبو جعفر صوته، فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد. إن الله تعالى أدب قومًا فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] الآية، وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا.
هدأت الأمور بعد ذلك، وخاصة في عهد المهدي الذي تولَّى بعد موت أبيه عام 158هـ، وكان المهدي من الأتقياء، وردَّ الكثير من المظالم، وكان يُجِلُّ الإمام مالك ويُقَدِّره.
لما قدم المهدي إلى المدينة جاءه الناس مُسَلِّمين عليه فلما أخذوا مجالسهم استأذن مالك فقال الناس اليوم يجلس مالك آخر الناس فلما دنى ونظر إلى ازدحام الناس، قال يا أمير المؤمنين أين يجلس شيخك مالك؟ فناداه عندي يا أبا عبد الله. فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى وأجلسه حتى أتى المهدي بالطست والإبريق فغسل يده ثم قال للغلام قدمه إلى أبي عبد الله فقال له مالك: يا أمير المؤمنين ليس من الأمر المعمول به ارفع يا غلام فأكل معه غير متوضئ.
استسقى مالك عند المهدي فأتي بقدح زجاج في أذنه حلقة فضة فأبى أن يشرب فأتي بكوز فخار فشرب فأمر المهدي بالحلقة فقلعت، وكان الإمام يقبل هدايا المهدي إلا أن يشكَّ أن وراءها شيئًا، ومن ذلك أنه لما قدم المهدي المدينة بعث إلى مالك بألفي دينار مع الربيع فلما خرج من عنده قال يا جارية لا تَمَسِّي هذا المال فإني (قد) تفرست حين نظرت وجه الربيع ورأيت فيه أمرًا منكرًا، ولهذا المال سبب، فلما حج المهدي وقدم المدينة أتاه الربيع بعد ذلك فقال له أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويحب أن تعادله (تكون له عديلًا في المحمل) إلى مدينة السلام. فقال مالك أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له: قال رسول الله ﷺ والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والمال عندي على حاله أخرجيه يا جارية. فأبى الربيع أن يقبله فلم يزل به مالك حتى أخذه فأتى الربيع المهدي فغمه رد المال فلما كان وقت رحلته شيعه الناس فوصلهم ووجه إلى مالك فودعه ولم يأمر له بشيء فلما أتى منزله وجه له ستة آلاف دينار. فالتفت إلى من كان حاضرًا وقال: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا مما ترك.
ولم يقبل الإمام مالك أن يذهب لتعليم أولاد الخليفة إعزازًا للعلم: عن عُمَرُ بنُ المُحَبِّرِ الرُّعيني، قَالَ: قَدِمَ المَهْدِيُّ المَدِيْنَةَ، فَبَعَثَ إِلَى مَالِكٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ لِهَارُوْنَ وَمُوْسَى: اسْمَعَا مِنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَعْلَمَا المَهْدِيَّ، فَكلَّمَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! العِلْمُ يُؤْتَى أَهْلُهُ. فَقَالَ: صَدَقَ مَالِكٌ، صِيْرَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا صَارَا إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ مُؤَدِّبُهُمَا: اقْرَأْ عَلَيْنَا. فقال: إن أهل المدينة يقرءون عَلَى العَالِمِ، كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانُ عَلَى المُعَلِّمِ، فإذا أخطئوا، أَفْتَاهُم. فَرَجَعُوا إِلَى المَهْدِيِّ، فَبَعَثَ إِلَى مَالِكٍ، فَكلَّمَه، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُوْلُ: جَمَعْنَا هَذَا العِلْمَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ رِجَالٍ، وَهُمْ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ: سَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُرْوَةُ -وعدَّ رجالًا- كُلُّ هَؤُلاَءِ يُقْرَأُ عليهم، ولا يَقرءون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرءوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا.
ولم يكن يتعرَّض لأحكام القضاء، وقال ابن وهب: وسمعته (أي سمع مالك) يقول فيما يسأل عنه من أمر القضاء: هذا متاع السلطان. ومع ذلك كان دائم النصح لهم، وقد دخل يومًا على الرشيد، فقال له: لقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور حتى يخرج الدخان من تحت لحيته، وقد رضي الناس منكم بدون هذا[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك